الخميس، 29 سبتمبر 2016

غــــار حــــــراء بقلم محمد البكرى

( غــــار حــــــراء ) --------------------------
""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
الأقصوصة السابعة - وهنا ايضا لغة مفقودة مع السماء -
""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
كانت أيامى الأولى فى المدرسة الابتدائية بقريتنا الصغيرة مثيرة فى كل شئ . مازالت أذكر حتى اليوم ، إحساس الفرح وقد غمر كيانى الصغير حين عدت إلى منزلى وأنا قادر على كتابة اسمى ..أحسست يومها أننى أصبحت أعرف كل شئ ، ولم أكن أمل أبداً من كتابته على كل ما يقع تحت يدى .
كان الشيخ عبد الفتاح مدرس اللغة العربية رجلاً معمما عميق الصوت ذو "جبة" فضفاضة واسعة "الكم" ، ذلك الذى كان يتخذه وسيلة للتهديد .. فكنت إذا ما رفضت النصح بالتوقف عن الكلام ، هددنى وهو يحدثنى جادا ، أنه سيضعنى داخل كمه ، ليذهب بى إلى حيث يرمينى فى الرياح القريب .. فكنت انكمش فى مقعدى وأكف عن الكلام نهائياً ، مكتفياً بالنظر إلى مدرسى خلسه بين الوقت والآخر .. لأتأكد من أنه قد صرف النظر عن حكم الغرق الذى أصدره منذ قليل .
****************
كان الشيخ عبد الفتاح ايضا وكالعادة ، مدرسا للدين .. يحفظنا الآيات ، ويروى لنا أحاديث السيرة .
وذات يوم روى لنا قصة "غار حراء" ، ونزول الوحى الملاك جبريل على النبى (ص) ، وهو يتعبد ليبشره بالرسالة ، وروى لنا كيف ارتاع النبى (ص) ، وهو يتحدث إلى الملاك . تلك المشاعر التى تذكرنى بخوفى من تهديد شيخنا الذى لا ينقطع وهو يلوح لى "بكمه" .
******************
خرجت يومها من المدرسة وعدت إلى منزلى ، وأنا سابح فى عالم آخر ملئ بالملائكة . لم أتناول طعام الغذاء ، وتحركت بهمة وأنا اضع بعض الطعام فى حقيبتى الصغيرة بدلاً عن الكتب ، وحملت فأسى الصغيرة التى الهو بها فى حديقة منزلنا ، وذهبت إلى "الغيط" المجاور لنا ، قاصداً تل التراب العالى ، والذى يكبر كلما جرف الفلاحون ما يعلو من الأرض ، ليكوموا المزيد من جسدها الزائد .. وكأنها عملية لشفط الدهون .. حين كان الطمى يأتينا مع النيل قبل بناء السد العالى .
******************
وصلت إلى هناك .. وقرب قمة التل أخذت فأسى الصغيرة تعمل بنشاط فى إعداد حفرة لتكون غارا صغيراً أتعبد فيه لله ، وحتى يأتينى "الملاك جبريل" . وبالفعل أعددت الغار بشكل جيد ، وفرشت أرضه ببعض أعواد القمح الجافة ووضعت بجانبى حقيبتى التى أحلتها إلى مخزن للطعام ، ولم أنس أن أصطحب معى عصا غليظة ، أدافع بها عن نفسى إذا ما حاول الملاك الذى انتظره أن يخيفنى مثلما فعل مع النبى (ص) .
كانت تنتابنى الحيرة وأنا أنظر إلى السماء ، ولا أعرف ماذا يمكننى أن أقول لهذا الإله الذى حدثنى عنه مدرسى . لم أكن أعرف كيف يعبد الإنسان ربه بالكلام والمناجاه ، وأنا لم أتعلم غير كيفية الصلاة والوضوء .
*******************
كانت تعيينى الوسيلة فاكتفى بالنظر إلى السماء مبهوراً بجمالها ، وأتخيل سلما طويلاً من الحديد يمكن أن يصنعه الحداد ليصل إليها .. حيث الله وحوله الملائكة . واستمر الحال على هذا كثيراً ، وأنا أنتظر "جبريل" كل يوم .. وهو لا يأتى أبداً ، فكنت أتمنى لو سافرت إلى الله فى طائرة من التى اسمع صوتها وأراها صغيرة جداً وهى تحلق فى السماء.
*******************
ومضى حبل الأيام يتواصل وأنا لا أشعر يالملل ، وأنتظر بلا كلل ، وصول الملاك جبريل ومعى دوما عصاى الغليظة وحقيبتى المليئة بالطعام .
اتذكر الآن قصتى تلك فأضحك من نفسى .. ولكنى ما أزال أتطلع دائماً إلى الله .. الذى أراه من حولى فى كل شئ .
____________________________ محمد البكرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق