الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016

لــيــلـــة عـــصـيــبــة بقلم الكاتب / حسن زايد





لــيــلـــة عـــصـيــبــة
قــصــة قــصــيرة
بـقــلـم / حــســـن زايـــــــد
لم أستطع إثناءه عن قراره ، رغم ملابسي العسكرية ، والأزرار النحاسية التي تزينه ، والرتبة العسكرية التي أحملها فوق كتفي . لم أجد بداً من الهبوط من الأتوبيس ، الذي قفل عائداً إلي المدينة البعيدة . لم يكن بالإمكان العودة معه ، لأن الوقت متأخراً ، ولا يوجد مكان للمبيت في هذه المدينة . ولم يكن من المتيسر العودة إلي وحدتي العسكرية . وهو لم يتراجع في قراره ، لنزول جميع الركاب في قرية تبعد عن قريتي عدة كيلومترات . ولم يكن موجوداً من قريتي سواي . فضلاً عن بدء هطول الأمطار في تلك الليلة الشتوية ، والطرق الريفية في وقت الشتاء تكون طينية لزجة . اقترب الليل من الإنتصاف . كان لابد من الإنزواء في أحد الأركان تحاشياً لإنهمار المطر ، حتي تكف السماء عن البكاء ، ويسكن عويل الريح ، وزلازل الرعد التي تخبط الوجود بعنف . القرية تغط في نوم عميق ، وجري فصل أعمدة الإنارة تفادياً للحرائق لأن أسلاكها هوائية . الوجود حولي صامتاً إلا من أصوات المطر والريح والرعد . لم يبق أمامي سوي التحرك فور توقف الأمطار ، أملاً في أن تلحق بي سيارة ضالة ، أستقلها إلي أقرب نقطة وصول . وما أن بدأت في التحرك ، وفصلت عن القرية ، وجدتني وحيداً في هذا الفراغ الكوني ، الذي يلفه ظلام دامس ، حيث تختفي النجوم خلف السحب السوداء التي تسد الأفق ، وتحجب ضوء القمر . وأمد يدي أمامي فلا أكاد أراها . ورغم الزي العسكري المهيب ، والقد الممشوق كعود البان ، والخطوات المنتظمة الثابتة الراسخة ، وصوت كعب الحذاء ، وهو يضرب الأرض اللزجة ، في خطوة منغمة بإيقاعات حادة ، إلا أن خفافيش الخوف جعلت تضرب بأجنحتها الجلدية في جوانب صدري رويداً رويداً . والهواء البارد يعصف بأرنبة أنفي ، وأطراف أذناي . في الظلام تعطلت عندي وظائف البصر ، فأرهفت السمع ، متسمعاً للجهات الأصلية والفرعية ، حيث الطريق ممتد وسط الحقول المنزرعة بالنباتات والأشجارعلي الجانبين ، متحسباً لأي حركة أو صوت أو صورة شبحية. لا أسمع سوي ضربات وقع أقدامي الصاخبة علي الأرض في حالة السكوت الكوني التآمري من حولي ، وصوت ضربات قلبي الصاخبة التي تضرب جنبات صدري ، وصوت ضربات الرعد لكبد السماء بين فينة وأخري ، وومضات البرق التي تخطف الأبصار ، في حالة جدل وجودي لا ينتهي . ألتفت ـ كل فترة ـ إلي الخلف ، كي يطمئن قلبي ، ربما التقط صوت محرك أو نور سيارة ضالة قادمة من الخلف . ما وقع في خلدي قط أن يصيبني كل هذا الخوف ، وكأن رؤوس الأشجار مسكونة بالأشباح المتوثبة لكائنات أسطورية . أتعرف علي الطريق الطويل الممتد ليس بالرؤية البصرية ، وإنما بالرؤية الحدسية المباشرة المستمدة من الخبرة السابقة به ، فهي بمثابة قرون استشعار ممتدة تسبق خطوات أقدامي . هدأت الأصوات قليلاً عند اقترابي من إحدي القري الرابضة علي جانب الطريق ، مؤملاً نفسي بخروج سيارة أو أحد يؤنس وحدتي في الطريق . فلم اسمع صوت محرك ، كما لم أر رجلاً أو أسمع وقع أقدامه ، ولا عواء كلب ، ولا مواء قطة ، ولا صياح ديكة . حتي الضفادع والصراصير أصيبت بالخرس . إنها قرية من الأموات تغط هامدة في سكون الليل البهيم . مررت بها بعد أن أصبت بخيبة أمل . واصلت السير ، حتي وصلت إلي قرية مفصلية ، تقع علي رأس زاوية التقاطع بين هذا الطريق ، والطريق الموصل إلي قريتي . ولم يفترق حال هذه القرية عن سابقتها ، مقابر يلفها الموت بعد أن أصابها طاعون كاسح . الغيوم السوداء ، ما زالت تغطي صفحة السماء ، وانحسر صوت الرعد والبرق ، ولم يبق سوي صوت أنفاسي ، وصوت ضربات قلبي . جلست قليلاً علي المصطبة الأسمنتية في مدخل الكوبري الحديدي، الذي يمر فوق الترعة الموازية للطريق ؛ كي التقط أنفاسي ، وتجيء تلك السيارة الضالة التي انتظرها . هاهي قريتي قد اقتربت منها كثيراً ، وأصبحت علي بعد كيلومتر واحد فقط . ولم يبق أمامي من عقبة سوي عبور الكوبري الفاصل بين البلدين . فقد كنا نسمع عن هذا الكوبري حكايات يشيب لها الولدان ، وتهون بجانبها حكايات الجان ، والشياطين ، والأرواح الشريرة ، التي كنا نسمعها صغاراً حيث تكمن تحته عصابة مسلحة ، تتفاجأ بوجودها حولك ، وأسلحتها مصوبة نحوك من كل جانب ، يسرقون كل ما معك ، ويتركونك عرياناً كما ولدت ، أو يقتلونك. لقد فتح قمقم كل الحكايات الشريرة المرعبة بداخلي ، وتشكلت صوراً حية تنططت متقافزة أمام عيني . وجدت ذهني مشتتاً ، ونفسي مبعثرة أشلاءًا ممزعة ، ومشاعر الخوف تهيمن علي وجداني وإدراكي . كل المشاهد كابوسية جاثمة . كان لابد من الهدوء ، ولملمة حالة الشعث العام ، لوضع خطة للتحرك والمرور . لابد من استبعاد خيار الهروب إذ لا محل له . يبقي خياران ، أن تذهب عريانا إلي بيتك ، أو تذهب جثة هامدة . وربما مما يزيد الطين بلة ، ذلك الزي العسكري الذي أتستر به . قررت التحرك تاركاً خياراتي جانباً . المسافة إلي الكوبري خمسمائة متر ، ومنه إلي القرية مثلها . يبدو أن الخوف يجعل الإنسان كأنه يمشي علي الماء ، ورؤوس الأشجار كأنها رؤوس الشياطين ، وحفيف أوراق الأشجار والنباتات ، يعزف سيمفونية الرعب الأزلي ، وهوام الأرض تتقافز متراقصة أمام عينيك علي الطريق في مشاهد أسطورية . ورغم زلزلة الخوف التي تضرب أقطار نفسي تحركت . وكلما اقتربت من الكوبري ، زادت ضربات القلب اشتعالا ، وتسارع تردد الأنفاس دخولا وخروجاً من أنفي وفمي ، وتوترت عضلاتي وشُدَّت . وشققت ماخراً عباب الصمت الجاثم علي صدر الوجود . اقتربت من الكوبري رويداً رويداً ، مترقبا علي حذر لحظة الهجوم ، وصلت إلي بدايته ، وتحولت كل حواسي إلي الأمام ، وعبرت إلي منتصفه ، وبلغت منتهاه ، وتحولت كل حواسي إلي الخلف . امتلأت نفسي برغبة جامحة في الجري هروباً . إلا أنني تعلمت أن الجري يزيد الخوف ، فتماسكت ، وحافظت علي ثباتي ، وكلي ترقب بانقضاضهم من الخلف . ابتعدت عن الكوبري بعدة مترات ، ثم تواصل ابتعادي علي مهل ، دون أن تدركني العصابة ، ربما لغفلتها ، أو نومها ، أو عدم وجودها . التقطت انفاسي اللاهثة ، وعاودت ضربات قلبي الإنتظام علي مهل . وبدأت في استعادة وعيي المفقود طوال الطريق ، وها انا ذا علي بعدعشرات الأمتار من قريتي . إحساس الأمان والدفء بدأ يتسرب إلي أقطاري المفككة . وفجأة انطلق صوت زاعق بجوار إذني اليمني ملقياً السلام . أصابني الصوت بشلل مؤقت . ورأيت طيف في الظلام يمرق في الإتجاه المعاكس ، إلتفت خلفي متتبعاً له حتي ابتلعه الظلام .لا إرادياً تحركت الذاكرة ، فحصلت علي نسخة الصوت . إنه الحاج / محمد كحيل ، مؤذن مسجد وسط البلد . واصلت السير ، وما زال الظلام جاثماً . دخلت إلي القرية ، وبدأت أشعر بالتعب يأكل أوصالي بنهم بالغ ، القرية نائمة ، ساكنة ، هادئة ، وديعة . الشوارع طينية زلقة ، وجوانب البيوت الطينية مبللة . والأبواب والنوافذ مغلقة . أصوات مواء قطط تتشاجر ، وعواء كلب يتهادي إلي مسامعي من بعيد ، وصياح ديك يبدو أنه كان فوق أحد الأسطح معلنا قرب موعد آذان الفجر . وصلت إلي باب البيت ، وجعلت أخبط بيدي عليه . جاءني صوت من الداخل :
ـ من بالباب ؟ .
كان صوت أمي ، فرددت بوهن :
ـ أنا .
فتحت الباب علي عجل ، وضربت بيدها علي صدرها ، وقد اكتست ملامحها بالفزع ، وأخذتني بين ذراعيها ، متسائلة :
ـ مالك يا بني ؟
قلت لها مطمئناً :
ـ لا شيء يا أمي . اطمئني .
قالت :
ـ ماذا جاء بك في هذا الوقت ؟ .
قلت :
ـ أجازة .
وقالت وهي تسندني بيديها ، وتصل بي إلي كنبة صغيرة في ردهة البيت :
ـ أي أجازة تلك يا بني ؟ .
لم أرد علي سؤالها ، وهي لم تلح في طلب الإجابة . اضجعت علي الكنبة ، وهي تحاول خلع حذائي من قدمي ، وتمسح بيدها علي وجهي وجبهتي ، وسرعان ما رحت في نوم عميق .
حــســــــن زايــــــــــد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق