الاثنين، 28 مارس 2016

لمـســة يــــد أقـصــوصـة بـقـلم / حـســـن زايـــد

لمـســة يــــد
أقـصــوصـة
بـقـلم / حـســـن زايـــد
هبطت مسرعاً ـ دون انتظار المصعد ـ دركات ذلك المبني الضخم ، المحاط بالأبراج السكنية الشاهقة ، في ذلك الحي الراقي . أسلمت نفسي للشارع الخالي من المارة ، أتفادي في عجلة من أمري ـ رافعاً يدي ـ السيارات الفارهة المارقة . عبرت إلي الرصيف الآخر. الشمس عمودية فوق الرؤوس . لا يوجد ظل شجرة أو عمارة يمكن الإحتماء به أثناء المشي . الأرصفة تنفث لهيباً ، والرطوبة والأبخرة والأدخنة المخلوطة بالهواء تزيد من حالة الإختناق والضيق . فتحت الجريدة الملفوفة ، وفردتها ، وصنعت منها مظلة ، وضعت المظلة أعلي رأسي، وأسرعت الخطي . وجدتني أمام مدخل مترو الأنفاق بعد دقائق . رنت في أذني في إيقاع سريع منتظم نقرات كعب حذائي ، وأنا أهبط الدرك . وجدتني مزروعاً في طابور للذكور، موازٍ لطابور آخر من الإناث ، أمام شباك التذاكر. كعادتي نظرت في الجريدة تزجية للوقت ، ودفعاً للملل . أثناء مرور عيني بين السطور، لمحت بطرفها عيناً من الطابور الموازي ، تختلس النظر. عيون خضراء ، لفتاة شقراء نحيلة ، يتدلي شعرها الأصفر الطويل علي كتفيها، ترتدي بلوزة بيضاء ، وبنطلون أسود ضيق . ما أن رأت عيني حتي تحولت بوجهها إلي الجانب الآخر. تبدو أجنبية الملامح . واصلت القراءة حتي وجدتني في مواجهة الشباك ، قطعت تذكرتي ، وتوجهت إلي الماكينة ، ومنها إلي السلم الكهربي ، الذي أسلمني إلي رصيف المترو . يبدو الرصيف مزدحماً . اندفع الهواء رطباً ، معلنا قدوم المترو ، تطايرت معه خصلة من شعر لمست أطرافها خدي ، التفت فوجدتها تقف بجانبي ، فأومأت بابتسامة خفيفة تشي بالإعتذار، رددت عليها بابتسامة تشي بالقبول . توقف المترو ، وانفتحت الأبواب . واندفع الناس في اتجاه الباب للركوب ، في مواجهة هدير البشر المندفع من ذات الباب للهبوط . يبدو أن أحدهم قد تعثرت قدمه فتعلق بأكتافي ، وما أن دخلت إلي المترو حتي التفت لذلك المتعلق بأكتافي ، فوجدتها هي وقد ارتسمت علي وجهها ابتسامة عريضة . أفسحت لها مكاناً للوقوف ، ووقفت بجوارها ، ممسكاً بالقائم الموجود بجانب الكرسي المجاور للباب . أصبحنا متجاورين . كأن ضحكتها كانت تصريحاً لي بتولي حمايتها . أغلق المترو أبوابه بالكاد ، بعد أن امتلأ بالركاب عن آخره ، ولم يبق فيه موضع لقدم . وبدأ يشق طريقه داخل النفق الطويل الممتد . وبدأت نظرية القصور الذاتي تؤتي أكلها في حركة الأجساد المتراصة . وقد كنت حريصاً كل الحرص ألا نتلامس من باب التحضر والرقي . إلا أن الإدراك والوجدان تلامسا ، ولكنهما لم يصلا إلي مرحلة النزوع . ووجدتني مستسلماً للخواطر التي بدأت تنهش في المشاعر والأحاسيس نهشاً موجعاً . حتي أنني لم أعد أري الركاب أو الأضواء الخافتة ، أو أسمع الأصوات الصادرة عنهم ، أو عن عجلات المترو ، وهي تنهب طريقها داخل النفق نهباً ، وجدت عيني منغمسة في تفاصيل ملامحها ، كأنما تعيد نحتها علي ذات النسق نحتاً . والبريق المشع من عينيها رؤوس حراب لا مرئية تخترق الحجب كلما صوبت نحو عيني عينيها . تهاوت أمامها كل القلاع . انسحبت كل مراكز الحس في الجهاز العصبي ، وانسحبت معها كل المشاعر ، لتتركز جميعها في نقطة واحدة وحيدة . تلامس متقطع عفوي بين الكفين المتجاورين علي القائم خلف الكرسي بجوار الباب . قبضت بشدة علي القائم ، كي أتأكد أن تلامسه عفوي . الدماء تندفع بشدة ، ساخنة ملتهبة ، وضربات القلب تتسارع بصوت مسموع ، تملأ فضاءات عربات المترو . زحف الكف الصغير الناعم الرقيق ، وألقي القبض علي كفي . أغمضت عيني رغماً عني ، وحبات العرق البارد تنساب بين مسارب جسدي . أفقت علي صوت المترو ، وهو يهديء من سرعته ، إيذانا بدخول المحطة ، تأهب الركاب للنزول ، تعلقت عيناها بعيني ، كأنما تدعوني للنزول معها ، شدتني من كفي ، واندفعت وسط الزحام الهادر ، واندفعت وراءها كالمنوم . فصل الزحام بين كفينا ، تباعدت المسافة الفاصلة ، دفعني الصاعدون إلي الخلف ، بينما هبطت هي علي الرصيف ، انغلق الباب ، تحرك المترو ، بينما الصور تتباعد ، والملامح تختفي حتي تذوب في ظلام النفق الممتد ، ولا تزال حرارة اللمسة أجدها في يدي .
حــســـن زايــــــد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق