الثلاثاء، 22 نوفمبر 2016

الـشـــباب وأزمــة الـثـقـــــة بقلم حــســـــــن زايـــــــــــد ..

الـشـــباب وأزمــة الـثـقـــــة
حــســـــــن زايـــــــــــد .. يـكـتـب :
جمعني مقهي بشاب ، سحب كرسياً ، وجلس إلي منضدتي بغير إذن ، وصفق بيده لنادل المقهي ، طالباً كوباً من الشاي ، ونرجيله . تملكني الغيظ ، فقلت : رحم الله زماناً ، كان المرء لا يجلس فيه في حضور الكبير إلا بإذن ، ولا يطلب شاياً إلا بإذن ، أما تدخين السجائر أو النرجيلة ، فرجس من عمل الشيطان ، فإن كان منه بد فليكن علي استحياء في الخفاء . فبادرني بقوله : أتعتقد أن المشكلة لدينا أم لديكم ؟ . فرمقته وأنا أرتشف من اكوب الشاي رشفة طويلة : لديكم . فقال وهو ينفث دخان النرجيلة في الفضاء : بل لديكم أنتم . صحيح أنكم أساتذتنا ، وأننا تتلمذنا علي أيديكم . إلا أن ذلك لا يعني السير في ركابكم ، والدوران في أفلاكم . إذن فهذا جزاء سنمار ؟ . قال بأريحية اليائس : لا . وإنما آفتكم أنكم نسخ مككرة من أنفسكم ، في كل مرة تعيدون إنتاج أنفسكم ، وأنتم تتصورون أنكم تنتجون جديداً ، نوع من الإجترار الممقوت للذات ، وكل مرة نجرب ما جربناه من قبل ، رغم فشل التجربة ، ونسير في نفس الطريق الآفة ، الطريق الدائري ، متوهمين أننا نحث السير إلي الأمام . وفي كل مرة نصل إلي النقطة صفر، ثم نستأنف السير كرات وكرات . قلت له : حجة البليد . قال : لا . مشكلتكم أنكم لا تنتبهون . انظر إلي مثقفي الستينيات والسبعينيات ، إنهم لم يلحظوا أنهم قضوا أعمارهم كفراشات الربيع تحوم حول أنوار السلطة وأضواءها المبهرة . ومن دار في فلك السلطة انغمست ثقافته بالنفاق ، لأنه اعتاد الهتاف الأشهر : عاش الملك .. مات الملك . قلت له وقد أعيتني حجته : تلك مشكلتنا ، فما مشكلتكم أنتم ؟ . فقال بثقة : مشكلتنا أننا لم نعد نثق بكم ، ولا بأحد قط . بل لم نثق بكم ابتداءًا . لأننا ولدنا فوجدناكم تتغنون بذكاء الملك وعبقريته ، وحنانه وإنسايته ، وشربنا هذا السم الناقع حتي قتلتنا الثمالة ، ولم ينجح الملك في فعل شيء يجعل حياتنا ذات قيمة . بل وجدنا وطناً غارقاً في الديون والفساد حتي الأذقان . فأين أنتم من المثقف الغربي ؟ . فالمثقف الغربي كان أشد إخلاصاً ووفاءًا لمجتمعه ووطنه . فقد قاوم الكنيسة حين تملكتها السلطة الزمنية ، وانعقد لواءها للحكم بالحق الإلهي . لقد صنع بفكره للناس طرقاً ومناهج ، صنعت الحضارة والتقدم والرقي ، وقاومت الإستبداد والتسلط ، والحكم بالحق الإلهي . طالب بالحرية في التفكير والتعبير . أما المثقف العربي فقد سال لعابه لخدمة سيده الحاكم ، كما فعل أسلافه حين مارسوا المدح والقدح وفقاً لما يخدم هواهم . إن الظلام والظلم الذي ترفل فيه مجتمعاتنا ، يحمل وزره علي ظهره في الأساس المثقف العربي ، الذي تصدي للتنوير والتربية والثقافة والفنون . وبدلاً من التأصيل جنحوا إلي التغريب . وآثروا الدعة والراحة ، والركون إلي الدفء والنوم ، في أحضان السلطان . لم نعد نثق في طبل جديد ، فقد سمعنا هذا الإيقاع من قبل ، حتي ملته النفوس . ولم نعد نثق في لحن جديد ، فقد سمعناه من قبل مراراً وتكراراً . ولم نعد نثق في مطرب جديد ، فقد تسابق الغالبية في مضمار الغناء . ولم نعد نثق في عمامة جديدة ، فمعظم العمائم قلقة ، ومهتزة ، وربما مهترئة . إننا لم نعد نحتمل التصفيق ، ولم نعد نحتمل روائح البخور . ياجدي الهوة بيننا واسعة ، اتسعت إلي حد الإستعصاء علي الردم . قلت له : هون عليك يا ولدي . استرسل كأنه لم يسمعن : القصة بالنسبة لمعظمنا ليست خيانة ولا تآمرً ، ولا مجرد معارضة سياسية ، أو قبول لشخص دون شخص . القصة أننا نشعر أنه لا شيء هناك يسير في الإتجاه الصحيح . وكل الجروح متقيحة ، والجميع مخادعون . صفقت مستدعياً نادل المقهي ، وطلبت كوباً من الشاي ، وفنجاناً من القهوة . ضحك الشاب قائلاً : ونرجيلة علي حساب جدي . أمسكت بطرف الحديث ، وبادرته قائلاً : أعرف كل الأمراض التي تحدثت عنها وزيادة ، وكلنا يعرف ، ولكن هل من المنطقي أن تحمل النظام الحالي كل أوزار الماضي ؟ . وتكبله بأغلال عدم الثقة تلك ؟ ! . وهل من المنطقي أن نطلب منه الإصلاح بضغطة زر ؟ . فأجابني بعدما أسند ظهره علي الكرسي ، وأشاح بيده : بالقطع لا يا جدي . ولكن ضع نفسك مكاني ، بعد ستة عشر عاماً قضيتها في التعليم ، يأتي أحدهم ليقول لي ، أن ما يتقاضاه يوقف عشرة من أمثالي طابوراً في وضع انتباه . لدينا من يموت من التخمة ، ومن يموت من الجوع . لا تقل لي أننا دولة فقيرة ، فالفقر فيها فقر فكر ، والشاهد تلك المواكب التي تحرق أبهتها القلوب ، وذلك الإعلام الذي يتصرف باعتبارنا دولة عظمي ، يقتلها الترف والرفاه . فقلت له : ماذا تريد تحديداً ؟ . قال : أريد مجتمعاً متكافلاً ، قائما علي الكفاية والعدل . وأن يستمع النظام لأنات الجماهير وهي تعتصر . أن يشعر الناس أننا نسير في الطريق الصحيح . قلت له : دعنا لا نطفيء كل محاولة للإصلاح ، بالشك والطعن وعدم الثقة . فنظام يقبض فيه علي وزير ، ويتم محاكمته وسجنه ، ويقيل آخرين ، ويقبض فيه علي ضباط شرطة انحرفوا عن الجادة ، وسجنهم ، ويقبض فيه علي قضاة . نظام يفتح ملف الأراضي المنهوبة . ويشق الطرق بطول البلاد وعرضها ، باعتبارها شبكة الدورة الدموية للبلاد اقتصادياً ، ومشروعات استصلاح الأراضي ، والعمل علي إعادة تسكين العشوائيات . نظام يبني مدناً جديدة ، ويشق قناة جديدة ، ويعمل علي تنمية إقليم قناة السويس ، ومشروعات الإستزراع السمكي . نظام يقوم علي رفع كفاءة التسليح للقوات المسلحة ، ويحارب الإرهاب ، وينشيء لأول مرة محطة نووية ، ويدعم الشبكة الكهربية بطول البلاد وعرضها ، وغير ذلك من المشروعات . اعتقد أن نظاماً يسعي في كل ذلك في أزمنة قياسية غير مسبوقة إنما هو نظام يسعي للإصلاح الحقيقي . دعك من التشكيك والمشككين ، فإنهم لن يرضوا عن النظام حتي يسقط ، وتسقط معه الدولة . إنك يا بني تصادر علي النظام بأثر رجعي ، ولا تنظر معه إلي الأمام . ولابد أن ندرك أن لكل إصلاح ضريبة وثمن وكلفة . قاطعني قائلاً : أن ليس لي اعتراض علي كل ذلك . ولكن فقط أطالب بأن يشعر النظام بالناس ، وهو يمارس إصلاحاته ، ولا يميز بينهم حتي في الشعور بهم ، ولنا في قصة يوسف عظة وعبرة . قلت له : ربما يكون معك حق في ذلك .
حــســـــــن زايـــــــــــــد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق