الجمعة، 25 نوفمبر 2016

عـلـي مـقـهـي فـي الـشــارع الـســـيـاسـي بقلم الكاتب / حسن زايد


حــســــن زايــــــد .. يــكـتــب :
عـلـي مـقـهـي فـي الـشــارع الـســـيـاسـي
علي مقهي في الشارع السياسي ، كان هو العنوان الأبرز، والأشهر، لمقالات الأديب المبدع / إحسان عبد القدوس السياسية . وقد استعرته منه لأنه الأكثر تعبيراً عن الحالة التي مرت بي ، في اليوم الثاني لي علي مقهي المعاشات . وقد فوجئت بذات الشاب العشريني ، وقد سحب كرسياً ، وجلس إلي منضدتي ، وطلب شاياً ، ونرجيلة . وأسند مرفقيه علي المنضدة ، ووضع خديه بين كفيه ، وزم شفتيه ، وهو يشد شدقيه ، مصطنعاً ابتسامة غيظ وكمد . وقال وهو يزفر لهيباً : " طبعاً قرأت مقالتك بالأمس . المهارة في القالب الفني الذي صُبت فيه تنضح ، والصياغة ماهرة ، والفكرة منسوجة بعناية ، والإخلاص في التناول قوي ، والقدرة علي جذب القارئ رائعة " . فرددت عليه متوجساً : " ادخل في الموضوع " . نظر إليَّ طويلاً كأنما يراني أول مرة ، ثم قال : " أنت تعمدت أن تلغي رأيك ، وتظهر الأمر كأنه جدل بين جيلين ، وهذا في رايي هروب من المواجهة " . فقلت له : " مواجهة من ؟ " . قال بلا تردد : " مواجهة السلطة . إن مثقفينا يمارسون رقة في النقد ، ونعومة في التوجيه . وأنا أرجع ذلك لسبب رئيس هو أننا في مجتمع ، الشجاعة فيه لها ثمن ، أو أن الساحة لا تسمح للشجعان بالكلام " . حاولت الرد ، إلا أنه قد أشار لي بالتوقف ، رافعاً صوته ، مستطرداً : " إن مثقفينا تنقصهم مهارة الفلاح وبساطته ، حين يحتاج الأمر مواجهة ، تجده يقول : بظروفها بقي ، الرزق علي الله . أما مثقفينا فلا يجيدون سوي ثقافة الزفة . زفة عند بناء السد العالي ، وزفة عند افتتاح مشروع الصالحية ، وزفة توشكي ، وزفة تطوير التعليم منذ أيام فتحي سرور، وزفة مدينة الإنتاج الإعلامي ، وزفة مع كل حجرة نسقفها بالخشب لفقير " . قاطعته قائلاً : " أحد أسباب إعجابي بالسيسي أنه لا يعلن عن مشروع إلا إذا تحقق علي الأرض " . مضي مسترسلاً كأنه لم يسمعن : " إننا في حاجة إلي الصراحة ، إلي أقلام محاربة " . فقاطعت استرساله قائلاً : " لاحظ أن هناك خيطاً رفيعاً بين الصراحة والوقاحة " . استطرد دون اكتراث : " إن مثقفينا يدركون أن مصر ترجع إلي الخلف ، والمثقف رائد في مجتمعه ، والرائد لا يكْذِبُ أهله ، ولا يبيع لهم وهماً ، بزعمه أن معاناتهم ضريبة الخروج من ظلمة النفق إلي نور الحياة . والحقيقة أنه لا نور ولا يحزنون . والقائل بأن مصر مريضة ، وأنها تتعافي ، يكون مفرطاً في التفاؤل إلي حد البله " . رددت عليه باستخفاف : " وما هو المخرج إذن يا فصيح ؟ ! " . قال بثقة : " الداء معروف ، والدواء معروف " . فقلت له وأنا أرتشف رشفة من كوب الشاي الذي تثلج في يدي : " فما هو الداء ، وما هو الدواء ؟ ! " . قال وقد سحب نفساً طويلاً من نرجيلته ، وقد انتشي بشعور المنتصر : " الداء : أن القضاة عندنا جعلوا لأنفسهم بأنفسهم دولة ، وقس علي ذلك : الشرطة ، ورجال الأعمال ، والبرلمان ، وأصحاب كل مهنة ، جعلوا من أنفسهم دولة ، يتقاسمون فيما بينهم ، خيرها ، ونفوذها ، وامتيازاتها ، ويورثونها لأبنائهم من بعدهم ، خصماً من أرصدة الدولة الأم " . قاطعته قائلاً : " أنت هنا لا تتحدث عن دولة ، وإنما عن دويلات . لا تتحدث عن مجتمع ، وإنما عن مجتمعات " . قال مبتئساً : " أنا وأبي الفقير ، نريد أن نشعر أن مصر بلدنا . ولا نريد أن نسمع أن شاباً نابهاً ، نابغاً ، مُنِعَ الصدارة لأنه من وسط لا يليق . ولنا في أوباما المثل . إنه ابن الأفريقي الأسود الفقير ، الذي حكم أمريكا ، بعد أن كان أجداده ، قبل قرن من الآن ، يعاملوا باعتبارهم عبيد زنوج . إننا نحتاج إلي ثورة في المفاهيم ، وثورة في العدالة " . فضحكت طويلاً ، وقلت له : " لو صح كلامك ، فمن يقوم بثورة ضد من ؟ . ومن أين نأتي بالحاكم الذي ترضي عنه هذه الدويلات ، وتلك المجتمعات ؟ ! " . قال بثقة : " الدولة بمفكريها وعلمائها لن تعدم إيجاد الحل . ولكن للأسف ، تركنا الأمور بيد نفس الأشخاص ، بنفس الفكر ، ونفس المفاهيم ، علي نفس الطريق " . قلت له : " في ظل هذا التوصيف ، والتصنيف ، الأفق يكون مسدوداً تماما . إننا نحتاج إلي أمة جديدة بفكر جديد " . قال بثقة المنتصر : " صدقت . ونريد ان نحرق ملابسنا القديمه ، لانها اصبحت ملابس مضحكه " . فقلت له : " من اين ، والخلف هم ابناء السلف ؟ ! انت بهذا الوصف لن تجد الا مجتمعا متحاربا منقسما متشرذما يحارب بعضه بعضا " . قال : " هناك أمم قد فعلتها ، لديك تركيا ، وإيران ، واسرائيل ، وماليزيا ، والهند . كل الأمم تصحو إلا نحن ، ننام نجتر نفس المخدر . غير معقول أننا كنا أمة مهابة الجانب ، يصل ضمورنا وتخاذلنا حد أننا فقدنا القدرة علي تشخيص أمراضنا " . قلت له بامتعاض : " لا تقول لي ثورة . فالمجتمعات لا يبنيها الثائرون الساخطون علي طول الخط " . قال بثقة : " الحكاية بسيطة ، بالعلم ، والعدل ، والمساواة . بأن ننهي النرجسية القاتلة . نقضي علي آفة : أنت لا تعرف أنا من ؟ . أو ابن من ؟ " قلت له محتداً : " تحدثت عن نماذج من الدول ، وأقول لك : أين العدل والمساواة في تركيا ، ولديها مشكلة الأكراد ، ناهيك عن الإجراءات الأردوغانية ألأخيرة ، فيما بعد الإنقلاب الفاشل . وأين العدل والمساواة في إيران وهي تضطهد السنة هناك ، وتحتل الجزرة الإماراتية ، وتضرب كبد العراق ، وتعبث بأياديها في اليمن وسوريا ولبنان والبحرين والسعودية . أين العدل والمساواة في اسرائيل وهي دولة عنصرية استخرابية غاصبة ، ذلك فضلاً عن التمييز بين اليهود الغربيين واليهود الشرقيين ، ويهود الفلاشا الأفريقية " . قاطعني قائلًا : " لكن المواطن فى اسرائيل اذا اصابته شوكه تحرك له سلاحها الجوى " قلت :" وفي نفس الوقت تذبح المواطن الفلسطيني ، ومع ذلك لدينا تحركت الطائرات عند مقتل يوسف السباعي في قبرص ، وفعلتها عند مقتل المصريين في ليبيا علي أيدي داعش " . إلي هنا شعرت بالإرهاق ، ونظرت فوجدت رواد المقهي قد تحلقوا حوالينا ، فنهضت مرجئاً استكمال الحديث إلي الغد .
حــــســـــــن زايــــــــــــد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق