الجمعة، 27 نوفمبر 2015

إعــتـــذار بقلم الكاتب حسن زايد

إعــتـــذار
أقــصـــوصــــــة
تعارفا من خلال موقع التواصل الا<تماعي :" فيسبوك " . هو كان كاتباً مغموراً ، يحاول إحياء ما تبقي له من عمر بممارسة هواية قديمة ، لم تجد متنفساً إلا من خلال الشبكة العنكبوتية " النت " . هي كانت شغوفة بكتاباته ، خاصة في القصة القصيرة . كانت تشعر أنه كاتب يملك أدواته . لم يتولد لديها هذا الشعور ، لأنها تدرك هذا الفن ، وإنما لأنها كانت تشعر بما يكتب . كان يذهب بها إلي عوالم شعورية مدفونة بداخلها ، فيفجرها متعة وشغف . كانت تعلق علي كتاباته ، تعليقات تحوي قدراً هائلاً من التذوق . تولدت لديها الرغبة في التعرف عليه ، والإقتراب من عوالمه . تولدت لديه الرغبة في التعرف عليها ، والإقتراب من عوالمها . طلب صداقتها ، فاستجابت علي الفور . فتح نافذة الدردشة علي استحياء ، مخترقاً تحذير " ممنوع الخاص" المتصدر لصفحتها ، وبادر بإلقاء التحية . ظهرت نبضات مؤشر الكتابة لديه ، فتعلقت عيناه بها ، انتظاراً للرد . توقفت النبضات ، ثم عادت للظهور ، ثم اختفت ، فأدرك أنها مترددة . كرر التحية لينبيء عن إصراره علي رغبته . هي شعرت بالتردد . كانت تهم بالرد ، ولمست بأصابعها لوحة المفاتيح ، ومع لمسة كل زر تتصاعد ضربات القلب ، ويداهمها إحساس بإختراق مبدأ : " ممنوع الخاص " ، فيدفعها ذلك إلي التراجع . يشعران أنهما يدخلان إلي نفق قد عرفا مدخله ، يلفه الغموض ، وينجذبا إلي سحر غموضه انجذاباً ، نفق تنحصرالحياة بداخله داخل كبسولة العقل . تجري أحداثه ، وتتحرك شخوصه ، وتتولد أفكاره ، ومشاعره ، وأحاسيسه ، داخل ذلك العالم الإفتراضي اللامحدود ، المنحصر داخل العقل البشري ، الكاسر لحدود المكان والزمان . التقطت عيناها نبضات مؤشر الكتابة القادمة من الجانب الآخر ، وكأنه يهمس في أذنيها التحية مرة بعد مرة .أدركت أنه ليس أمامها من سبيل سوي الرد ، طالما تورطت في قبول الصداقة ، وشعرت بأنه يتعين عليها حسم الأمر من بدايته ، تحركت أصابعها ، لمست ازرار الحروف ، ردت التحية ، واستطردت ـ كي لا تتيح له فرصة الولوج في الحوار ـ قائلة :
ــ أنا لا أرد علي الخاص علي الإطلاق.
التقط طرف الحوار علي عجل :
ــ أعتذر ، ولكن فقط ، كنت أود التعرف عليك .
قالت بحسم :
ــ ما بيننا لا يتعدي علاقة إعجاب ما بين قاريء وكاتب .
قال بتودد :
ــ وأنا لا أطمع في أكثر من ذلك .
توقفت نبضات الأزرار عند هذا الحد ، وقد رضي كل منهما ـ مؤقتاً ـ بما ظفر به . انشغل كل منهما فيها بشئونه . ولم ينسيا ذلك التلامس الحواري الذي أحدث في نفسيهماً أثراً .مرَّت الأيام الفاصلة بينهما تترا حتي اكتملت أسبوعاً . همَّ بفتح جهاز اللاب توب ـ كما همت بغير اتفاق ـ كأنما دعوة غامضة ، تولدت من داخله ، وداخلها . فتحت نافذة الدردشة ، وعاجلته بقولها :
ــ أأنت بخير ؟ .
ــ نعم ، وأنت ؟ .
ــ لم أر لك شيئاً .
التقط طرف الخيط قائلاً :
ــ هذا اسمي ، وتلك صورتي .
قالت :
ــ هذا اسمي ، وتلك ليست صورتي .
قال بتلهف :
ــ أود التعارف .
قالت بحسم :
ــ لدي أسرة وزوج ، واحبهما بلا حدود .
قال مؤكداً :
ــ وأنا كذلك .
قالت بتخابث :
ــ إذن ، ماذا تريد ؟ .
قال بتودد :
ــ أن نظل أصدقاء مهما حدث .
قالت بارتياح :
ــ لك ذلك .
توادعا ، وفي الليلة التالية إلتقيا . تسارعت الأيام بهما ، حتي صارت أسابيعاً ، وشهوراً ، واحتفلا سوياً ــ بنبضات الأزرار ــ بمرور عام علي تعارفهما ، لم يعد بينهما سراً ، تعاتبا ، تخاصما ، تصالحا . غارت عليه من لمسات الإعجاب ، وتعليقات الإطراء بالكلمات من المعجبات ، غار عليها ، من إعجاب المعجبين ، وتعليقات المعلقين ، كانا يشعران أن الغيرة أمارة دالة ، وهي ملح الطعام . لم يفكرا في الغاية ، وتحاشيا سوياً ـ بلا اتفاق ـ سؤال : ثم ماذا بعد ؟ . كانا يدركان أنه السؤال المعول ، لأن الأفق مفتوح بلا غاية ، وبلا سقف . وتبقي الإرتباطات الأسرية هي الإطار المقيد للإنطلاق . تبادلا رقمي هاتفيهما ، لكسر حواجز الجمود الزاحف . المشاعر والأحاسيس ، علي تدفقهما ، والتهابهما ، يظلا مجرد حروف . حروف حية دافقة ملتهبة ، إلا أنها تبقي في إطارها الوهمي ، محصورة في عالمها الإفتراضي اللاموجود . ومثل تبادل رقمي هاتفيهما طوق النجاة .
في اليوم التالي اختلي بنفسه ، بعيداً عن الأعين المتلصصة ، والأذن المسترقة ، وأخرج هاتفه ، وطلب الرقم ، وأسرع بوضع الهاتف علي أذنه . هي سمعت صوت الهاتف وهو يناديها من داخل حقيبة يدها ، أسرعت بإخراجه ، لمحت اسمه علي شاشته ، فإذا بألوان الطيف تنعكس علي وجنتيها ، تفحصت الوجوه ، فإذا بالعيون المتلصصة تنتهبها . سحبت الحقيبة ، وتسللت خارجة دون أن تكترث بالأسئلة المتلاحقة التي تطاردها . يبدو أن وجهها قد فضحها . ابتعدت بعيداً ، وانزوت في أحد الإركان الهادئة ، وما زال الهاتف يرن . ضغطت علي الزر ، ووضعت الهاتف علي أذنها ، إنحبس صوتها ، ولكنه يبدو أنه قد سمع صوت أنفاسها ، وصوت دقات قلبها ، وأدرك عجزها عن الكلام ، فبادرها :
ــ لا يوجد كلام يعبر عن سعادتي .
ــ ....................................!!
ــ الآن تأكد لي وجودك خارج العالم الإفتراضي .
ــ ...................................!!
ــ ألن أسمع صوتك ؟ .
قالت بتلعثم:
ــ إننا نسرق ما ليس لنا بحق .
قال بآسي :
ــ أدرك . أترغبين في نهو العلاقة.
قالت بحرص :
ــ لا . نرشد الأمر .
اتفقا علي قصر الإتصال الهاتفي علي الضرورة القصوي ، واتفقا علي ترتيب مواعيد الإتصال ، تفادياً لمخاطر المفاجأة . وما زالت الأيام تمضي مسرعة ، ومع مضيها تتقلص القيود ، وتتلاشي الحدود ، وتذوب المسافات ، وتنعدم الأزمنة بضغطة زر . شعرا سوياً بالأزمة . لقد حلت التقنية الحديثة أزمة التواصل الإنساني من ناحية ، وعقَّدتها من ناحية أخري . لقد قربت المسافات البعيدة ، إلا أنها بعَّدت المسافات القريبة، وأعادت تشكيل العلاقات ، ودفعت بالإنسان إلي مزيد من العزلة والفردية ، بينما يتصور عن ذاته أنه قد غرق في الجماعية حتي أذنيه . علاقات افتراضية تبدأ وتنتهي بضغطة زر . إنهما يهربان ما وسعهما الهروب من الإحساس بذلك . في إحدي الليالي ، فاجأته بإرسال صورتها عبر نافذة الدردشة ، مكافأة له علي حلو الكلام . شجعه موقفها علي طلب مقابلتها إلا أنها أبت، وأبدت انزعاجها ، رغم رغبتها العارمة في ذلك . ألح في الطلب إلا أنها أبدت تخوفها القاتل .اتفقا علي اجراءات تأمين المقابلة ، وأن تكون في مكان عام ، وأن تكون في وضح النهار .
في اليوم التالي ارتدي أفضل ما عنده من ثياب ، بعدأن حلق ذقنه ، وهذب شعره ، واطمئن علي هندامه ، ركب السيارة ، وأدار المحرك وانطلق . وصل إلي المكان مبكراً . فضل أن يكون في الإنتظار . جيء له بفنجان من القهوة . طفق يعبث بهاتفه وهو يحتسي القهوة . الوقت يمر بطيئاً وكأن آلة الزمن قد أصابها العطب علي نحو مفاجيء . جعل يطارد هواجسه في أركان ذهنه ، وعيناه تتعلقان بالمدخل . تصبر فلم يصطبر ، وأمسك بالهاتف ، وطلبها . لم يأت رد . انتظر قليلاً ، ثم طلبها ثانية ، فلم ترد . قال في نفسه : ربما يكون الهاتف داخل حقيبتها ، فلم تسمع صرخاته . بعد فترة لم يدر أطالت أم قصرت ، طلبها ، فلم ترد . جلس يتلمس لها الأعذار . وبينما هو كذلك ، إذا بالهاتف يرن . نظر في الشاشة ، فإذا برقم مجهول ، فتح الخط ، ففوجيء بصوت رجل في الطرف الآخر يسأله عن اسمه ، فرد :
ــ نعم .
ــ هذا الهاتف اتصل ثلاث مرات .
ــ ...........................
ــ واضح أنك رجل مهذب ومحترم .
ــ يبدو أن الهاتف به شيئاً ما . أعتذر .
أغلق الطرف الآخر الخط ، وعم الصمت . نهض من مكانه متثاقلاً ، أخرج نقوداً من جيبه ووضعها علي المنضدة ، التقط الهاتف ، ومفاتيح السيارة ، وانصرف وهو يردد : "أعتذر " .
حــســــــن زايــــــــــد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق