الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

الـســـــفـروت بقلم الكاتب حسن زايد

الـســـــفـروت
قـصــة قـصـــيرة
بقلم / حــســـن زايـــــــد
وجدتني في الشارع ، معهم ، نجري ونلهث ، وراء السيارات ، في إشارات المرور ، نمسك بالفوط الصفراء ، ثم ننكفيء مسحاً للسيارات الملاكي ، والزجاج الأمامي أو الجانبي أو الخلفي . المهم أن يشاهدنا قائد السيارة ، قبل أن تنفتح الإشارة ويتحرك . قد يشيح بوجهه مكشراً ، وقد ينهرني معنفاً ، وقد لا يكترث ، وقد يسب ويلعن ، وقد يمد يده في صمت ، أو وهو يبتسم ، فألتقط ما فيها ، مهرولاً خلف سيارة أخري . سيارات جميلة ملونة ومتنوعة ، لا يعوقها عن التهام الأرصفة سوي الزحام ، والإشارات ، بداخلها بشر، تنبعث منهم روائح غير مألوفة ، إلا أنها جذابة ، ومبهجة ، وتبدو وجوههم ناعمة ، وملابسهم ملونة نظيفة ، لا تنبعث منها روائح العرق . ولحظات السعد لنا لحظات الأزمة ، حيث تكون حصيلة اليوم وفيرة ، فلا نتخطف الخبز ، في آخر الليل ، من فرط الجوع . نتجمع في النهاية علي شاطيء النهر، خلف سور الكورنيش ، بعيداً عن العيون ، ودهس الأقدام ، حيث تشاركنا الحشرات ، والزواحف . نجمع الحصيلة ثم يذهب أحدنا لشراء وجبة العشاء ، فالعشاء هوالوجبة الرئيسية لنا ، فيشتري لنا سندوتشات الفول والطعمية ، والفلفل المقلي ، والباذنجان المخلل ، والبصل النيء الصغير ، وأكياس السلطة الحراقة . نفترش الأرض، ونلتهم الأكل التهاماً من فرط الجوع ، فإذا فرغنا من الطعام ، شق كل طريقه إلي النهر ، يغرف الماء بكفيه ، ثم يفرغه في جوفه ، ويرتوي . نتسامر حتي يسقطنا النوم في شباكه الواحد تلو الآخر ، فنتوحد في جسد واحد متلامس كأننا نلتمس الأمان المفقود . كنت أتكوم في حضنها ، فكأنما هي الدنيا تحتضني برفق ولين ، وتحنو علي حنواً يغمرني بالأمان ، ولا يغمض لي جفن دون هذا الحضن الدافيء ، كانت تطوقني بذراعيها النحيلين خشية أن تفقدني أو أفقدها . كانت تكبرني ببضع سنوات . تفتح وجداني علي وجودها في الحياة ، فكأنما هي الحياة . قيل لي بأنهم قد وجدوني بجوار صندوق قمامة ، موضوعاً في لفافة من القماش ، فوقها فوطة، داخل حمالة أطفال ،أعوي من الجوع . تنازعوا أمرهم بينهم ، حتي وقرت في كنفهم . حملتني أقدامي معهم ، ولم أعرف سواهم ، كبرنا سوياً ، وأصبحنا نسابق الريح بالنهار ، ونخلد إلي النوم بجوار النهر بالليل . وفي الصباح نستيقظ علي تغريد العصافير فوق الأشجار ، وأصوات الصنادل في النهر ، ومروق السيارات علي الرصيف المجاور . نهرع إلي النهر ، منا من يغسل وجهه ، ومنا من ينتحي جانباً بعيداً كي يقضي حاجته ، أما من كان يريد أن يستحم ، فعليه بالتستر وراء غبشة الفجر ، يخلع ملابسه ، وينزل إلي النهر ، يغطس فيه مرة أو مرتين ، ثم يرتدي ملابسه . ثم ننتشر كالجراد سعياً وراء الرزق .منا من تخصص في مسح السيارات ، ومنا من تخصص في بيع الزهور والفل ، ومنا من تخصص في بيع المناديل ، لم نصرح لأنفسنا بالسرقة أو التسول ، حتي لا نتعرض للمطاردة . كنت أشعر بالتعب أحياناً ، وقدماي لا تحملاني ، فأستريح إلي جوار بناية ، أو تحت ظل شجرة ، أرقب الطريق والمارة ، كأني أعدهم عداً ، فتقع عيني علي أطفال صغار ينظرون من خلف زجاج نوافذ السيارات ، والأتوبيسات ، ليسوا مثلنا ، كم تمنيت أن اكون معهم ، أو مثلهم ، وقفت مرة أمام إحدي المدارس ، فرأيتهم يخرجون من البوابة مسرعين ، يتوجهون إلي سيارات فيها من ينتظرهم ، يأخذ بيدهم ، ويقبلهم ، ويمسح علي رؤوسهم ، ويرفع عن ظهورهم الحقائب ، يشربون المياه المعبأة في زجاجات ، مياه نظيفة وملونة ، وعلبة مغلقة يمتد بداخلها أنبوب رفيع ، يصل ما بين العلبة ، والفم الباسم الدقيق المرسوم علي وجوه بيضاء ناعمة . كنت أحاول الإقتراب منهم ، كي أتعرف عليهم عن قرب ، ولكن ما أن أقترب حتي تنطلق بهم السيارات مسرعة مخلفة وراءها تراب يغشي وجهي وعيني ، ويدخل مع الهواء إلي منخاري وفمي . في البداية كنت أتخوف من ممارسة عملي معهم ، ثم جازفت ، وبدأت ـ علي استحياء ـ في مسح زجاج السيارات وقت الإنتظار . لمحت في الأعين نظرات لا أحبها ، نظرات الشفقة والرثاء لحالي ، فيبدو أنهم قد وجدوا ملابسي رثة ، رغم أنني أغسلها يومياً في مياه النهر الجاري ، ويبدو أنها كانت مهترئة قليلاً . ولا أدري إن كانوا قد فسروا قسمات الجدية علي ملامحي علي أنها شقاء أم ماذا ؟ . ولكنني كالعادة لم أكترث ، لأن اكتراثي سيعوق حركتي وعملي . ومرت أيام وأسابيع وشهور ، وأنا أواظب علي الحضور في الموعد . وفي ذات يوم ، بينما أمسح زجاج إحدي السيارات ، استوقفني وجه طفولي ، ممتليء بالبراءة ، تعلو قسماته ملامح ابتسامة رائقة ، وعيون برسيمية لامعة ، قالت بصوت خفيض :
ـ أنت ؟
ـ نعم .
مدت يدها في حقيبتها ، وأخرجت من بين أوراقها ، رغيف خبز أفرنجي ، مشقوق طولياً ، وممتليء بأشياء لم أرها من قبل . ترددت في البداية ، وارتعشت يدي ، ولا أدري ما الذي قرأته في وجهي في تلك اللحظة ، قالت :
ـ خذ .
ـ ...
مددت يدي ، وأخذته ، ولم أنتبه إلي صوت الرجل الجالس خلف عجلة القيادة ، وهو يطلب مني الذهاب ناحيته ، فنبهتني الجالسة علي الكرسي المجاور ، فاتجهت صوبه ، مد يده ، وأمسك بيدي ، ووضع فيها شيئاً ، ثم أطبقها . باليد الأخري مسح علي شعري ، وابتسامته تحتضنني بعطف ، ومسني شعور لم ألمسه من قبل . ثم انطلقت السيارة من أمام المدرسة مسرعة ، وأنا أتابعها شاخصاً . فقدت الإحساس بالدنيا من حولي . ووجدتني اتجه صوب حائط جانبي ، افترشت الأرض ، وفتحت يدي فوجدت فيها ورقة نقدية كبيرة ، لم أرها من قبل . ونظرت إلي الرغيف بيدي فوجدته ممتلئاً بأنواع مختلفة من الطعام الذي يبدو شهياً لوناً ورائحة . كنت جائعا حقاً . قسمت الرغيف نصفين ، بيني وبينها ، واقتربت بفمي رويدا رويدا من نصفي ، وقضمت قضمة ، ومضغطها ، وقضمت أخري ، وأنا أنظر في الورقة النقدية الكبيرة ، وجدت عيني تقاوم غلالة من الغيام تتصارع ، وهي تقاوم ، وفمي يمضغ ، ثم انهارت حصونها أمام إعصار الدموع الهادر الذي تفجر بداخلي ، أنا لا أدري لماذا بكيت في لحظة توفرت فيها أسباب السعادة ، ولكني بكيت . انتبهت لحالي إزاء الرجل الذي وقف في مواجهتي ، سأل وقد رق لحالي :
ـ مالك ؟
ـ .......
انصرفت دون أرد . قررت إنهاء يوم العمل ، والعودة إلي منطقة التجمع ، وفي طريق العودة ، كنت أتوقف عند المحلات من الخارج ، أشاهد الملابس ، والألعاب ، والأجهزة ، من خلف زجاج الفاترينات . لم أمني النفس باقتناء أي منها .أرنو إلي العمارات الشاهقة علي الجانبين . تعلوها سحب داكنة ، وهي تجري مسرعة في تدافع إلي حيث لا أدري ، ثم تحدث قرقعة ، يعقبها ضوء خاطف . ونسمات باردة تخترق ملابسي ، نافذة إلي عظامي . بعد دقائق وصلت إلي المقر ، فوجدتها هناك ، تجلس شاخصة إلي مياه النهر ، لم تشعر بقدومي ، جئتها من الخلف ، ووضعت يداي علي عينيها ، فإذا بها تقول بصوت خافت :
ـ السفروت .
ـ مالك ؟ .
ـ ما الذي آتي بك مبكراً ؟ .
ـ انظري .
ودفعت إليها بنصف السندويتش ، فقالت :
ـ من أين ؟ .
ـ من باب الله .
تنازعنا فيمن سيأكله ، وأخيراً أمسكت به ، وجعلت تقضمه . وبعد أن انتهت ، قلت لها :
ـ أغمضي عينيك .
ففعلت مبتسمة في آسي ، فدفعت إليها بالورقة النقدية ، فتحت عينيها ، نظرت بفزع ، متساءلة في استنكار :
ـ من أين لك بهذا ؟ .
هدأت من روعها ، وقصصت لها الحكاية . وفاتني أن أسألها عن سبب عودتها مبكراً . سألتها فأجابت :
ـ شعرت بعجزي عن المشي والحركة .
قلت بإصرار :
فلنذهب إلي الطبيب .
ضحكت ساخرة ، وهي تقول :
ـ من أين يا حسرة ؟ .
فاشرت إلي الورقة التي بيدها ، وأمام إصراري ، لم تجد بداً من الإستسلام لرغبتي . وأمام الطبيب سمعت عن السرطان ، وأنه في مراحله المتأخرة ، ولابد من بدء برنامج العلاج فوراً . خرجنا ولم يتبق من الورقة الكبيرة
إلا بضع وريقات صغيرة . عقدت العزم علي بدء رحلة العلاج . وتغيير برنامج العمل . بحثت عن العمل في أماكن عدة ، في المحلات ، والورش ، والمقاهي ، دون جدوي . وقفت أوراق الهوية حجر عثرة في قبولي بأي عمل ، فلا أحد يعرف من أنا ، ولا أنا ، حتي رفقائي لا يعرفون سوي اسمي وحسب . حيث لا اعتبار في عالمنا التحتي للأوراق أو الهوية . اتفقت مع بائع صحف يعرف اسمي وشكلي من خلال كثرة ترددي علي المكان ، علي منحي فرصة العمل معه الفترة الصباحية . عدت إلي المقر فرحاً مسروراً ، وأخبرتها ، تبسمت ممتنة ، وأنا أمني النفس بأحلام كفاية العلاج والغذاء . نمت من ليلتي في حضنها كالعادة ، وتسمعت إلي أنين العظام من فرط الألم ، تداهمني بين النوم واليقظة كوابيس وخيالات مفزعة ، لم أشعر بأهمية وجودها في حياتي كما أشعر الآن . في غبشة الفجر سحبت نفسي من أحضانها ، غسلت وجهي من ماء النهر ، وانصرفت إلي مقر بائع الصحف جرياً ، كأني في سباق مع الزمن . الشمس غائبة خلف الغيوم الكثيفة . والسيارات تمرق في الشوارع مسرعة ، والناس تنتشر كالجراد . قام بعدِّ الجرائد ، وتصنيفها ، وتسليمها لي ، علي أن أعود له بثمنها ، وأتقاضي أجري ، وما أن غادرته ، حتي توقفت سيارة فجأة ، في الجانب الآخر من الشارع ، وأشار قائدها بيده ، فأسرعت إليه مستفتحاً فرحاً ، وما أن وصلت إلي منتصف الشارع ، حتي شعرت باصطدام في جانبي الأيسر ، وصوت كوابح سيارة يعوي صارخاً ، وتطايرت الصحف في الهواء ، بينما يرتطم جسدي الصغير النحيل برصيف الشارع ، وسائل ساخن يتدفق من أنفي وفمي ، ووجوه غائمة امتلأ بها المكان ، وأصوات لم أتبينها ، ثم خفتت الأصوات حتي تلاشت تماماً ، شعرت برغبة في إغماض عيني ، فأرخيت جفوني ، وعجزت عن رفعها ، وذهبت إلي حيث لا أدري .
حــســــن زايـــــــــد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق