الجمعة، 20 مايو 2016

الْمَكَانُ الصِّفْرُ بقلم الاديب د. جمال الجزيري



الْمَكَانُ الصِّفْرُ: قصة قصيرة
عندما سطا الظلام فجأة على المكان، هتفتُ باسمه:
- يا عادل.
لكنه لم يرد بالرغم من أنه كان معي منذ ثوان يحدثني عن تصوراته وكلانا يدين الإرهاب.
- أين أنت؟
رد عليَّ الصمت. حاولت أن أتحسس المكان حولي. اكتشفتُ أن خارطة المكان تلاشت من رأسي فجأة ولم أستطع أن أكوِّن عنه صورة واحدة في ذهني. عندما حركت قدمي لأضعها على ما كنت أعرفه طريقا، وجدتُها غاصتْ في الرمل، فسحبتُها على الفور كي لا تبتلعني الرمالُ. جربتْ قدمي كل الخطوات إلى أن وجدتُ نقطة صلبة وتمسكتُ بها. صرخ صوتٌ فجأة، قائلا:
- يا ظالم.
استغربتُ الصوت الذي لم أسمعه من قبل، لكنه عندما تردد صداه في أذني عدة مرات تبينت فيه صوت عادل الذي كان معي قبل أن يسطو الظلام على المكان. استغربتُ من أنه يخاطب أحدا، فقبل الظلام لم يكن معنا أحد. ووجدتُ صوته يقول:
- نعم أنت. لا تندهش! أكلمك أنت.
ازدادتْ حيرتي وحاولتُ أن أرد عليه، لكن صوتي خانني في تلك اللحظة. عاد صوته من جديد مستجوبا:
- أتعتقد أنني لا أراك؟!
ما بال هذا المجنون يتحدث عن الرؤية وسط الظلام الكثيف! لكن كلامه سرَّب خوفا بدأتُ أحسُّ به في ارتعاش يديَّ. عاودَ مخاطبتَه لي:
- هذه هي نهايتك. فلو تحركت خطوة واحدة ستغرق في بحر رمالي.
تمكَّن الخوفُ منِّي فعلا، وبدأتُ أحسُّ بقشعريرة حقيقية تجتاحني. ولكنني حاولت أن أتغلب على خوفي ولو قليلا حتى أستطيع التفكير: ما الذي يدعوه إلى كل هذا الكلام والتهديد والضغينة المباغتة؟ أذكر أننا كنا نتبادل وجهات النظر على هامش المؤتمر لا أكثر، ولم تكن بيننا عداوة أو توتر. قطع تفكيري بصوته الذي بدا متضخما ويشْغل كلَّ شيء حولي:
- لا تراوغْ ولا تلفِّقْ التبريرات.
أأنا أراوغ؟ وأي تبريرات تلك التي يتكلم عنها؟ لا أذكر إلا الأسباب التي كنت أسوقها لدعم وجهة نظري ولا شيءَ غيرها. كما أنه عبَّر لي عن اقتناعه بهذه الأسباب. ترجرج صوته فجأة كأنه يضع أمام فمه آلافَ مكبرات الصوت:
- أتعتقد أنك ستفوز عليَّ؟ دخول الجنة أقرب لك يا دافع الرشوة.
إما أن أكون أنا نائما وأحلم أو يكون هذا الصوت صوتَ شيطانٍ رجيمٍ. لا أعرف ما يتحدث عنه. لم أُخْرِجْ من جيبي اليوم جنيها واحدا إلا عندما دعوته لتناول القهوة على أحد المقاهي القريبة، ولا يوجد بيني وبينه إلا رابطة الإنسانية التي تجمعنا. هل كرمي رشوة؟ ولمَ أرشوه أصلا؟ كنا كصديقين قديمين نتبادل الحكايات والذكريات بالرغم من أننا لم نلتقِ لأول مرة إلا بالأمس عندما تعرَّفنا. انهالت عليَّ الحجارة فجأة، وكان صوته يصاحبها كموسيقى تصويرية تُضَاعِفُ الإحساسَ بالرعب أو الغدر.
- أعرف خصالكم. تحتكرون كل شيء. فلتحتملوا حجارتي.
وأخذت الحجارة تتضاعف وأنا لا أعرف كيف أُلَمْلِمُ الدماءَ التي طفقت تنز من جسمي. تمنَّيتُ أن أكون في كابوس، وأخذتُ أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. لكن شيئا لم يتغير. ظلَّت الحجارة تُلقى عليَّ كأنها ترجمني، وظلَّ صوتُه يتردد في أرجاء المكان لِيُسْمِعَ كل الآذان لو كان هناك أحد غيرنا خارج هذا المكان العجيب الذي تحوَّل فجأة من مكان حوار إلى مكان رَجْمٍ. كنت أرى نجوما تهيم على وجهها في السماء، لكن نورها لم يصل منه شيء إليَّ. تذكرت قصيدة كتبتها عن بُعْدِها عنِّي آلاف السنوات الضوئية ونصيحتها التي وجَّهتها لي بأن أسارع الخطى ولكن زمني تحوَّل صفرا. أدركت أنها لن تصل إليَّ، وأن الزمن الصفر اقترن بالمكان الصفر، وأنني الآن لا أستطيع أن أغادر مكاني، وصوتي يضيع وسط شوشرة مكبرات الصوت التي توزِّع صوت ذلك العادل في كل الاتجاهات، وأنا وحدي لا يسمعني أحد، ولا يدع لي عادل فرصةً لأن يتسرَّبَ صوتي من بين أصواته المتكاثرة.
أدركتُ أن الوضع لو استمر على هذه الحال سأفقد سمعي وعقلي في أقرب وقت بالتأكيد. تذكرت أحد الأتقياء الذي نصحه الطبيب بأن يبتر ساقه فطلب منه أن يبترها أثناء الصلاة لأنه سيكون في كامل تركيزه وخشوعه ولن يحسَّ بالبتر. لكنني لم أكن على وضوء ولم أستطع التيمُّمَ وكانت خريطة المكان مطموسة الملامح في ذهني وسط هذا الظلام. رفعت يدي في الظلام وعاودتني لحظات الحميمية. أخذت أدعو الله. وجدتُ صوتي مازال محتبسا، لكنني حمدت الله أنه يعلم ما في سري. حمدته كثيرا ودعوته أن يحفظ لي اتزاني وسلامتي النفسية والعقلية. اللهم سامحني إن كنتُ أخطأت خطأ لم أشعر به أو كنتُ نسيتُ شيئا أو شككت يوما في عنايتك. اللهم إنك تعلم أنني قد أجهل الكثير وربما لا أحيط علما بتصرفي في حينه إلا بعد أن أسترجعه وأتدبره عندما أحاسب نفسي. اللهم لا تأخذني بذنب غيري. اللهم إنِّي لا أحمل تجاه الكل إلا المحبة والأخوة. اللهم إنني لا أستطيع أن أغيِّر ما يحس به غيري نحوي، لكنني أسألك أن تحفظني من ضغينة لا أعرف سببها.…
وجدت صوتي يخطو نحو أذني. سمعته خافتا في البداية، لكنه كان واضحا. شكرت الله كثيرا لاستجابة دعائي. وجدت النجوم تفتح سَدَّ أشعتِها، وأحسستُ بنور خفيف بدأ يدبُّ في المكان. كما أنني وجدت أن أصوات عادل بدأت حدَّتُها تخفُّ. لم تتلاشَ، لكن أصواته لم تعد تصل أذني كَطَرقات رجال أمن في الظلام بعد منتصف الليل على باب خشبي يكاد ينهار أمام الخبطات الثقيلة. أحسست بأن أذني صارت أقوى من الأول، وأنها تصد نبرات صوته في تحدٍّ واضح كحارس مرمى جبَّار تحتكر يده الكرة ولا تدعها تمر إلى شباكه مطلقا.
نظرت إلى النجوم التي بدأ ضوؤها ينتشر وإن كان خافتا. لم أعرف إن كانت نظرتي لها ساعتها نظرة عتاب أم نظرة محبة. تَلَوْتُ عليها قصيدتي. وجدتُ أن صوتي بدأ يظهر أكثر وتتحدد أبعادُه. حاولت أن أتذكَّر باقي قصائدي. وبالرغم من أنني لا أحفظ منها سطرا واحدا، وجدتُ نفسي أقرأ قصائد كثيرة كأنني ممسك بكل دواويني السابقة. وكلما قرأت قصيدة وجدت أن النور أخذَ يدبُّ في المكان، فيظهر شعاعٌ هنا أو شعاع هناك، فأخذتُ أندمج في القراءة، ووجدت نفسي أقرأ قصائد لم أكتبها، وكأنها خرجت على لساني فَرِحَةً بصوتي الذي بدأ يعلو. كلما أمعن لساني في ممارسة الحركة، ازدادت الأنوارُ حولي وبدأتْ معالمُ المكان تتضح. فَخَطَوْتُ خطوة ولم أجد قدمي تنغرز في الرمال. أخذت أكمل إلقاء قصائدي وأخطو خطوة وراء خطوة. أبصرتُ عادل على مقربة مني ينبح، لكنني نظرت إليه نظرة مشفقة وواصلت سيري، وبدأتْ خارطةُ المكان تتشكل في رأسي وإن بدت أكثر وضوحا.
5 فبراير 2010
من مجموعتي القصصية: في انتظار العاصفة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق