صـــــورة
قــصــــــة قـــصــــيرة
بــقــلــم / حــســـــن زايــــــــد
قــصــــــة قـــصــــيرة
بــقــلــم / حــســـــن زايــــــــد
كانت الدقائق والساعات والأيام تنزلق متدافعة متسرسبة من بين الأصابع ، هي في عجلة من أمرها ، رغم أنني لست في عجلة من أمري ، أو كنت أسعي جاهداً أن أبدو كذلك ، وفي يقيني أن ما بقي من وقت ليس كافياً ، وهو متآكل علي نحو متسارع . وكم كنت أتمني امتلاك القدرة علي كف عقارب الساعات عن الدوران في أفلاكها . وظل الصراع قائماً بين الوقت وبيني ، كأنما كنا خصمين متعاندين ، وكلما اقتربنا من النهاية اشتدت حدة الصراع وقوته ، ووهنت قدرتي علي المصارعة ، وهو لايكل ولا يمل . لقد وهن العظم قليلاً ، وفقد مرونته ، تيبس كأنه زجاج قد أحرقه وهج الشمس . وانحني الظهر ، وتيبست الركب ، والوجه لا يزال يحتفظ بملامحه الأولي ، رغم الكرمشة حول العين والرقبة ، وبضع شعيرات متناثرة قد فقدن صبغتهن علي نحو مبكر . حتي جاء يوم إعلان الإنتصار له ، وهزيمتي . وجدتني ـ وكأنه فجأة ـ يطلب مني الزملاء كلمة ، أفقت علي نداءاتهم علي . لم أكن مستعداً، ولا جاهزاً بكلمة. نهضت متثاقلاً ، وأنا أحمل علي ظهري تعب السنين ، وأمسكت بأقطاري المبعثرة ، وتفحصت تلك العيون المتطلعة تجاهي ، وهي تنغرس في لحمي وعظامي ، كل عين تحمل ذكريات صاحبها معي ، وتصنع منها سهاماً مصوبة في اتجاه قلبي ، تخترقه ، وتدك حصونه . قلت لهم : " تلك هي المرة الثانية ، التي يُطلب مني فيها ، إلقاء كلمة النهاية . الأولي بعد انتهاء خدمتي بالجيش ، وكان عزائي فيها ، أنها ليست إعلاناً بالنهاية ، وإنما نهاية لبداية جديدة . والثانية الآن ، وأصعب ما فيها أنها نهاية بلا بداية ، نهاية النهاية . ويصعب علي النفس أن تعيش مشهد النهاية مرتين " . دوت القاعة بالتصفيق ، فزلزلني رجع الصدي ، فاستطردت قائلاً : " رغم أني كنت ألملم بقايا أوراقي مبكراً ، ورغم علمي بهذا التاريخ ، إلا أنني ما زلت متفاجئاً حقاً ، ولا أخالني وقد انتهت حياتي العملية بينكم الآن ، وبدأت أحبو رويداً رويداً إلي آخر المشوار . كم كنت أتمني أن ينتهي المشوار بينكم ، بين أحضان العمل ، بدلاً من إلقائي في غياهب الفراغ والعدم ، خارج الحياة، كم كنت أخشي هذه اللحظات ، وأتحسب لها . أشكركم " . نهض الحضور جميعاً ، وهم يصفقون . ونهضت المنصة ، حيث السلام باليد ، والإحتضان ، والتقبيل ، والربت علي الظهر المثقل . تسلمت الهدايا ، وشهادة التقدير ، وجنيهاً من الذهب ، وكلمات الحضور، وإطار مذهب احتوي صورتي وهي تبتسم . تكاثرعلي الحضور ، والتفوا حولي ، وكلمات الإطراء والمديح ، مندفعة ، متداخلة، مختلطة ، لا أكاد أميزها ، وأنا أرد علي الجميع بابتسامة دامعة ، ارتسمت علي ملامحي امتناناً . دفعني الجمع المحتشد إلي خارج القاعة ، إلي الممر ، ومنه إلي البوابة الداخلية ، وأجلسوني في الحديقة علي أحد الكراسي ، حيث تحوطني أشجار ونباتات الزينة ، والأشجار المثمرة . وطفق الجمع يلتقط الصور التذكارية معي ، من زوايا مختلفة ، وفي أوضاع متعددة ، والهواء يرسل نسماته الباردة الطرية ، محتضنة الوجوه الندية ، التي تبدو ابتساماتها قد تسربلت بغلالة حزن شفافة رقيقة . والشمس ترسل أشعتها علي استحياء كي يلتحف بها الكون . وأغصان الحديقة تهتز طرباً احتفاءًا بالدفء ، والإحتفال . جاءني أحدهم طالباً مفاتيح السيارة ، هامساً برغبته في وضع أشيائي بها . فأدركت أن النهاية مندفعة بلا كوابح ، مددت يدي في جيبي ، وأخرجت المفاتيح علي مهل ، كأني أسترق بضع لحظات أخري ليست لي . أخذ المفاتيح واختفي . شرعت في الوقوف للإنصراف ، وبدأ الجميع في التدافع نحوي ، كي لا تفوته لحظة الوداع ، وبدأت أخطو خطوات متثاقلة نحو النهاية ، وبينما أنا كذلك ، فإذا بصوت يأتي من بعيد مندفعاً ، مخترقاً الجموع ، خارماً طبلة أذني :
ـ في داهية......
صدمني الصوت ، وتعثرت فيه مسامعي . لم أر أي ردة فعل علي الجموع، كأنهم لم يسمعونه . فتجاهلت الأمر معتبراً إياه من قبيل الهلاوس السمعية . ومع ذلك ألمت بي غصة مؤلمة . واصلت أقدامي المشي علي مهل دون تعثر ، وكأني أزرع الخطوات زرعاً . وبينما أنا كذلك ، إذا بصوت آخر يندفع من حيث لا أدري ، مخترقاً الجموع الملتفة :
ـ المركب .......
وفي هذه المرة التقطت مسامعي الكلمة ، وأدركت دون مواربة ما تعنيه ، وقد تأكد أنها ليست هلاوس ، فقد التقطت أذني همهمات مكتومة ، تبدلت معها الملامح والمشاهد ، وأصبحت الحركات والسكنات أكثر عصبية ، وأكثر حدة ، هكذا التقطت عيني صورةالمشهد ، بلا ظلال . فأسرعت الخطي قليلاً ، حتي أنصرف قبل أن يقع أي إرتباك فد تهتز معه الصورة علي نحو مفاجيء . وصلت إلي باب السيارة الذي كان مفتوحاً ، وقد ناولني ـ أحدهم ـ المفتاح . وقفت ألقي نظرة أخيرة علي المكان ، والمباني ، والأبواب والنوافذ ، والشجر ، والسحاب الذي يجري في الأفق البعيد ، وتلك العصافير المتقافزة من غصن إلي غصن ، ونظرت إلي شجرة الكافور العالية المنزرعة خارج الأسوار ، فلمحت غراباً قد اعتلي أعلاها ، وما أن نظرت إليه ، حتي طار وهو ينعق زاعقاً ، فارتد إلي بصري خاسئاً وهو حسير ، وبينما أنا مستغرق في ذلك ، إذا بسيدة تحمل زيراً من الفخار ، رأيتها فتسمرت في مكاني ، لم يسعفن التصرف ، ولم يبد مني أي رد فعل انعكاسي حيالها . وإذا بها تقذف بحمولتها تحت قدمي ، وقد تشظي الزير شظايا صغيرة ، محدثاً صوتاً أقرب إلي الإنفجار ، تبعثرت حولي شظاياه ، فانفجرت الجموع المشيعة في ضحك هيستري ، وهي تتراجع بعيداً عني ، انحنيت قليلاً ، ودخلت إلي سيارتي بهدوء ، وأغلقت بابها دوني ، وأدرت المحرك وانصرفت .
حــســــــن زايـــــــــد
ـ في داهية......
صدمني الصوت ، وتعثرت فيه مسامعي . لم أر أي ردة فعل علي الجموع، كأنهم لم يسمعونه . فتجاهلت الأمر معتبراً إياه من قبيل الهلاوس السمعية . ومع ذلك ألمت بي غصة مؤلمة . واصلت أقدامي المشي علي مهل دون تعثر ، وكأني أزرع الخطوات زرعاً . وبينما أنا كذلك ، إذا بصوت آخر يندفع من حيث لا أدري ، مخترقاً الجموع الملتفة :
ـ المركب .......
وفي هذه المرة التقطت مسامعي الكلمة ، وأدركت دون مواربة ما تعنيه ، وقد تأكد أنها ليست هلاوس ، فقد التقطت أذني همهمات مكتومة ، تبدلت معها الملامح والمشاهد ، وأصبحت الحركات والسكنات أكثر عصبية ، وأكثر حدة ، هكذا التقطت عيني صورةالمشهد ، بلا ظلال . فأسرعت الخطي قليلاً ، حتي أنصرف قبل أن يقع أي إرتباك فد تهتز معه الصورة علي نحو مفاجيء . وصلت إلي باب السيارة الذي كان مفتوحاً ، وقد ناولني ـ أحدهم ـ المفتاح . وقفت ألقي نظرة أخيرة علي المكان ، والمباني ، والأبواب والنوافذ ، والشجر ، والسحاب الذي يجري في الأفق البعيد ، وتلك العصافير المتقافزة من غصن إلي غصن ، ونظرت إلي شجرة الكافور العالية المنزرعة خارج الأسوار ، فلمحت غراباً قد اعتلي أعلاها ، وما أن نظرت إليه ، حتي طار وهو ينعق زاعقاً ، فارتد إلي بصري خاسئاً وهو حسير ، وبينما أنا مستغرق في ذلك ، إذا بسيدة تحمل زيراً من الفخار ، رأيتها فتسمرت في مكاني ، لم يسعفن التصرف ، ولم يبد مني أي رد فعل انعكاسي حيالها . وإذا بها تقذف بحمولتها تحت قدمي ، وقد تشظي الزير شظايا صغيرة ، محدثاً صوتاً أقرب إلي الإنفجار ، تبعثرت حولي شظاياه ، فانفجرت الجموع المشيعة في ضحك هيستري ، وهي تتراجع بعيداً عني ، انحنيت قليلاً ، ودخلت إلي سيارتي بهدوء ، وأغلقت بابها دوني ، وأدرت المحرك وانصرفت .
حــســــــن زايـــــــــد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق