الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

فــي فــقـــه الــثـــورة
بـقـلـم / حــســـن زايـــــد
قد يحلو للبعض توهماً أن يركب موجة الدعوة إلي ثورة مجدداً ، بعد ثورتين . أولاهما : توفر لها أسبابها المنطقية التي قد تدفع إلي الثورة . فقد توفرت مشاعر الغضب المكبوتة ، من استشراء الفساد ، والإيغال في التوحش الرأسمالي والإستغلال ، والزواج غير الشرعي بين السلطة ورأس المال ، وتضافر شريعة الغاب مع غياب منطق العقل والعدل ، وانعدام تكافؤ الفرص ، وصارت اللامساواة مبدأً في العدل والظلم علي السواء . هنا تفجرت براكين الغضب ، واندفعت حممها من مكامنها ، دون أن يدرك أحد مستقرها ومستودعها ، ودون أن يملك لزمامها اتجاهاً ، ولا لمستقرها خزاماً . وما ثارت الجماهير حين ثارت إلا عند انسداد الأفق بدياجير الظلام ، وتخييمها علي العقول والمدارك ، وانهيار منظومات القيم الموروثة ، ثارت الجماهير بفقد المنطق والعقل ومكامن الأحلام . ثم كانت الثورة الثانية ، عندما أدرك الشعب أن ثورته الأولي ، قد أتت اكلها بثمار حنظلية ، جماعة ركبت ذات المركب ، ولكن بنصوص دينية ، تحتفظ لذاتها بحق تأويلها في المطلق . وكل ما سعت إليه بكل ما أوتيت من قوة ، هو إحلال أتباعها محل العاملين في مؤسسات الدولة ، فهاجمت الجيش وقياداته ، والشرطة وقياداتها ، والقضاء ورجالاته ، وحاصروا المحكمة الدستورية العليا ، وقادوا البلاد إلي كارثة ، كسائق أعمي ، يقود سيارة بلا فرامل ، إلي منحدر ليس له قرار . فإذا كانت هذه الجماعة تقف موقفاً عدائياً من مؤسسات الدولة ، بل وتسعي إلي هدمها لإحلال مليشياتها محلها ، فمن يعمل معها ؟ . ولمن تعمل إذن ؟ . خاصة أن هذه المؤسسات ليست مستوردة ، ولا هي فئوية ، وإنما هي من ذات النسيج المجتمعي الذي تسعي إلي قيادته ، وهي من ذات القماشة التي تعمل عليها ، وبها . ومن هنا جاءت الثورة الثانية التي أطاحت بهذه الجماعة ، وهي ثورة بحق وليست انقلاباً كما يذهب البعض . وما كان دور الجيش فيها سوي تحييد القوة الباطشة المسلحة لهذه الجماعة التي نري آثارها أعمالاً تخريبية ودموية ما زالت شاهدة علي كارثة قيادتها لبلد بحجم مصر . واليوم نسمع دعوات إلي ثورة ثالثة ، وكأني بالثورات الصواعق ، دعوة يصدرها أي ناعق ، فيخرج المجتمع في إثره زاعق . كأنما الدعوة إلي ثورة كالدعوة إلي نزهة ينتظرها المجنمع علي ناصية أي شارع أو حارة ليتسلي بها وقت الفراغ . فالشعوب حين تثور فإن لثورتها كلفة وآثاراً علي كل أبعادها ، طولاً وعرضاً ، وعمقاً وارتفاعاً ، فبثورتها تتزلزل الأرض والأقدام ، وتتقلقل الثوابت والأركان ، وتنحرث الأرض ، وتخرج الحشرات والديدان , وتطفوا الطفيليات ، وتنتشر الصراصير والفئران . ومع الثورات تتوالد الأحلام ، وترتفع أسقف الطموحات والأمال ، وكأن الثورة بذاتها تتخلق معها الأشياء، وتنصلح معها وبها الأحوال ، وتتحول الحياة من مآل إلي مآل . ويبدو أننا نسينا أن الثورات بذاتها لا تؤتي ثماراً ، ولا تزيح نظاماً ، ولا تعالج فساداً . وإنما فقط تزيح رأس النظام ، وتطيح بعنقه . ويعيش المجتمع كله حالة من السيولة العارمة . فهل بذلك تكون قد اكتملت الثورة ؟ . وهل باندلاع شرارتها ، ينزاح الفساد ، وتعمر الذمم ، وتستيقظ الضمائر ، وتنصلح القيم ، وتتهذب الأنفس ، وتستقيم المسالك ، وتتفتح العقول ، وتتسع الأفهام ؟ . هيهات هيهات لما تحلمون . إن الثورة حتي تكتمل حلقاتها ، وتؤتي ثمارها ، فلابد أن تشتمل علي ثورات أخري . فنحن جميعاً ، ودون استثناء ، في حاجة ملحة إلي ثورة علي النفس ، وثورة علي العقل ، وثورة علي طرائق التفكير ومناهجها ، وثورة علي العشوائيات التي تعشش في كل جنبات حياتنا ، وثورة علي الضمائر ، وثورة علي الذمم ، وثورة علي الخرائب ، وثورة علي التلوث السمعي والبصري والأخلاقي ، ثورة علي فقر الفكر وفكر الفقر . تلك هي الثورة الحقيقية . وبتعبير الدين ، إذا اعتبرنا الثورة جهاداً ، فقد رجعنا من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر . حينئذ لن يكون هناك محل للتساؤل : ماذا فعلت لنا الثورة ؟ . لأن الثورة لا تفعل لنا ، وإنما نفعل نحن للثورة ، وحين يكون الأمر كذلك ، نكون قد فقهنا معني الثورة ومدلولها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق